مقاصد القرءان الكريم


د. عبد الرحمن الكيلاني

مقاصد القرءان الكريم وأثرها في بناء المشترك الإنساني

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:

تمثّل مقاصد القرآن الكريم المدخل السليم للتعريف بالدين الإسلامي تعريفاً صحيحاً لا يشوبه التشويه، وبيانه بيانا سليما لا يعتريه الخلل، وتوضيحه توضيحا كاملا لا يرد عليه النقص أو الزلل.

ذلك أن مقاصد القرآن هي الكاشفة لحقائق الإسلام ومعالمه، وهي المرشده إلى معانيه وقيمه، وهي الهاديه إلى أسراره وغاياته. والتعريف العام بدين الإسلام إنما يعتمد ابتداء على التصور الصحيح لمقاصد القرآن الكريم نفسه، وإدراك غاياته ومعانيه، ومعرفة أهدافه ومراميه.

وهذا يعني أنه إذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن الكريم صحيحة وسليمة كانت المعرفة بالإسلام نفسه صحيحة وسليمة، وإذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن ضعيفة ومختلة كانت المعرفة بالإسلام نفسه ضعيفة ومختلة، ولعل هذا هو ما حدا بالإمام الشاطبي إلى القول:([1])

الْكِتَابَ هو كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، (…) وإن كان كذلك لزم ضرورةً لمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي؛ نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، أَنْ يَظْفَرَ بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ.

ولأجل هذا، كان الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم، تعيينا وإدراكا وتوضيحا وبيانا، أمراً ضروريا لفهم الإسلام نفسه ومعرفة حقيقته، ثم تبليغ دعوته ورسالته للناس تبليغا يوافق مقصود الشارع ويحقق مراده من رسالته التي أنزلها رحمة للعالمين.

وإن الناظر في آيات الكتاب الكريم يجد أن من جملة مقاصده العامة: بناء المشتركات الإنسانية الواحدة التي يمكن أن تكون جسورا للتواصل والتفاعل بين شعوب الأرض وأممها، على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية.

وهذا واضح في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم، كما في قول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات : 13].

وقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

إلى غيرها من الشواهد القرآنية الكثيرة التي تؤكد على أن القرآن الكريم قاصد إلى إيجاد الروابط الإنسانية العابرة للخصوصيات الدينية والثقافية والمذهبية، وقاصد إلى إيجاد المساحات المشتركة التي يمكن أن تتسع لجميع شعوب الأرض وأممها ومجتمعاتها، وقاصد لتحقيق التعاون بين الناس، وقاصد إلى بناء القيم الإنسانية الواحدة التي يمكن أن يلتقي عليها الجميع.

كما يظهر جلياً عند النظر في مقاصد القرآن: أن طبيعة العلاقة بين الشعوب والأمم، مبنيةٌ على أساس التعارف والتعاون، وتحكمها معاني البر والعدل والقسط، وأن الاختلاف بين الناس في أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم لا يسوّغ العدوان ولا البغي ولا الظلم للآخرين.

وإذا نظرنا في العطاء العلمي الذي قدمه علماء الأمة، جزاهم الله خير الجزاء، نجد الإشارات الواضحة إلى أثر المقاصد القرآنية في بناء المشتركات الإنسانية الواحدة، وفي إيجاد القواسم المشتركة والتأسيس للتعاون الإنساني، ومن ذلك مثلا ما ذكره العلماء في المقاصد الضرورية الخمسة وأنها مما اتفقت عليه الملل والشرائع التي يراد منها إصلاح الخلق، قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر».([2])

ونجد عند العلماء المعاصرين بيانا أوضح وأصرح في إبراز القضايا الإنسانية المشتركة التي قصد القرآن الكريم إقامتها، ومن هؤلاء الشيخ محمد رشيد رضا الذي حدد مقاصد القرآن الكريم، وذكر منها:

«الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثماني وهي: وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ».([3])

فالإصلاح الإنساني، ووحدة الجنس البشري، والمساواة والعدل، هي قيم إنسانية كلية، ومساحات مشتركة تصلح أن تكون أرضية واحدة للتعاون والعمل الإنساني.

كما بيّن الشيخ يوسف القرضاوي المقاصد التي أكدها القرآن الكريم، وانتهى إلى أنها تتجلى في سبعة مقاصد كبرى، وذكر منها: «التعاون الإنساني» باعتباره واحدا من المقاصد القرآنية.([4])

ولا ريب أن التعاون الإنساني يجب أن يكون واردا على قضايا مشتركة، وعلى قيم متفق عليها، وعلى موضوعات واحدة هي محل قبول الجميع، لأن التعاون إنما يكون في المتفق عليه لا في المختلف فيه، ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث لترصد القيم المشتركة، وتحدد الأسس الواحدة التي يمكن أن تكون منطلقات للتعاون الإنساني.


تابعوا آخر الأخبار من قرٱن بريس على Google News

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة قرٱن بريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري .

تعليقات الزوار 0


الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي قران بريس